من أعظم نعم الله تعالى على البشرية نعمة الهداية والإيمان، نعمةُ معرفة الحق تبارك وتعالى، وهذه النعمة لا يعطيها الله إلا لمن اصطفاهم واختارهم من عباده، بعد أن يرسل إليهم رسولا يقوم بتبليغ الدين، ويدعو إلى الإسلام، ويرشد إلى الطريق المستقيم، ولقد تتابع الرسل منذ هبوط أبي البشر آدم عليه السلام إلى الأرض واستقراره فيها إلى أن ختم الله تعالى هذه السلسلة المباركة بخاتم الأنبياء محمد ﷺ.
والرسالة التي جاء بها محمد -صلى الله عليه وسلم- خاتمة الرسالات الإلهية، وآخر كلمات الوحي للبشرية، واللبنة الأخيرة في صرح الإسلام، والهمزة الأخيرة للوصل بين النَّاس وربهم وبين المخلوقين وخالقهم. ولقد قام رسول الله بحمل الأمانة وتبليغها على أحسن وجه وأكمله، بشهادة جميع الصحابة الذين حضروا حجة الوداع «…أيها الناس: إنما المؤمنون إخوة، فلا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد، فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده، كتاب الله وسنتي، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد، أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلُّكم لآدم، وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. فليبلغ الشاهد الغائب»، فهو الهادي إلى الحق، والداعي إلى الصراط المستقيم. ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى:52]
وانطلاقا من قوله عليه الصلاة والسلام: «من لم يرحم صغيرنا ، ويعرف حقّ كبيرنا ، فليس منّا» [أخرجه البخاري في الأدب المفرد :353] ، فإن على المؤمنين توقير النبي وتعظيمه والتأدب معه، لأننا مأمورين بتوقير الكبير أيا كان، فصاحب هذه الرسالة أحق الناس بالتوقير والتعظيم والاحترام، لأنه فوق كل كبير من البشر، ومقامه فوق كل مقام.
القرآن يرسم لنا حدود التعظيم
إن القرآن العظيم يضع النقاط فوق الحروف حين يصف محمدا صلى الله عليه وسلم بجملة من الصفات هي غاية في التعظيم والتوقير والتكريم، فحين يصفه ربه بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:4] فهذه شهادة منه عز وجل على جلال أخلاقه وعظيم خلاله، وحين يصفه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107] فقد نعته بأبلغ النعوت بأنه رحمة للعالمين برسالته العالمية وشخصيته الربانية، وجاء قوله تعالى: ﴿ياأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا﴾ [الأحزاب:45-46] مبينا جوامع الصفات الخالدة لصاحب الرسالة الخالدة؛ فهو الشاهد والمبشر والنذير وهو الداعي الى الله والسراج المنير.

كما أنه وضع دستورا للتعامل وقانونا للتخطاب مع صاحب الرسالة : ﴿لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور:63] نقل الإمام الطبري في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنه: كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك، إعظاما لنبيه، صلوات الله وسلامه عليه، قال: فقالوا: يا رسول الله ، يا نبي الله . وهكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جبير .وقال قتادة : أمر الله أن يهاب نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأن يُبجَّل وأن يُعظَّم وأن يُسوَّد .
كما جعل رفع الصوت فوق صوته ﷺ محبطا للأعمال ومنسفا للخيرات والحسنات: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات:2] قال الإمام الشوكاني: «والمعنى: لا ترفعوا أصواتكم إلى حد يكون فوق ما يبلغه صوت النبي ﷺ، قال المفسرون: المراد من الآية تعظيم النبي وتوقيره، وألا ينادوه كما ينادي بعضهم بعضا، ﴿ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾ أي: لا تجهروا بالقول إذا كلمتموه كما تعتادونه من الجهر بالقول إذا كلم بعضكم بعضا، قال الزجاج: أمرهم الله بتجليل نبيه، وأن يغضوا أصواتهم، ويخاطبوه بالسكية والوقار. ولا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضا: يا محمد، يا أحمد، ولكن: يا نبيّ الله ، يا رسول الله». قال القاضي أبوبكر بن العربي: «حرمة النبي ﷺ ميتا كحرمته حيا، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به» [فتح القدير:5/78 ، أحكام القرآن: 1702] وليس المراد برفع الصوت والجهر في القول ما يقع باستخفاف، فإن ذلك كفر بإجماع العلماء.
كما نهى المؤمنين أن ينساقوا وراء السفهاء والمغرضين في التلاعب بالكلمات للنيل من مقام النبوة والرسالة :﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [البقرة : 104] هذا نهي من الله للمؤمنين أن يقولوا أثناء خطابهم لرسوله محمد ﷺ كلمة ﴿راعنا﴾ التي هي بمعنى: راعِنا سمعَك فَافْهَمْ عنا وأَفْهِمْنا، لأن اليهود كانوا يقولونها للنبي ﷺ يلوون ألسنتهم بها، يقصدون سبَّه ونسبته إلى الرعونة، وقولوا- أيها المؤمنون- بدلا منها: انظرنا أي: انظر إلينا وتعهَّدْنا، وهي تؤدي المعنى المطلوب نفسه.
كما توج إجلال النبي وتعظيمه بتحية مباركة من الله والملائكة والمؤمنين: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:56] حيث أمر المؤمنين أن يقتدوا بالله وبالملائكة في الصلاة والسلام على النبي، وأن يحيّوه بالتحية الكاملة في كل مناسبة يذكر فيها، وتحية الله والملائكة والمؤمنين هي الصلاة والسلام، عن أبي سعيد الخدري : قال: قلنا يا رسول الله هذا السّلام عليك قد عرفناه فكيف الصلاة؟ قال : «قولوا اللّهمّ صلّ على محمّد عبدك ورسولك كما صلّيت على إبراهيم ، وبارك على محمّد وآل محمّد كما باركت على إبراهيم» [صحيح البخاري:3/119]، وهذا التوصيف والتعظيم والتوقير من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وليس لنا إلا أن نصفه بما وصفه ربه في الكتاب العزيز. قال القاضي أبو بكر بن بكير: «افترض الله على خلقه أن يصلوا على نبيه ويسلموا تسليماً، ولم يجعل ذلك لوقت معلوم، فالواجب أن يكثر المرء منها ولا يغفل عنه».
التوقير وحسن الأدب مع محمد رسول الله
إن الناظر في حياة الصحابة رضوان الله عليهم يجد أثر التربية القرآنية في سلوكهم وتعاملهم ، ويرى أنهم كانوا على قدر كبير من حسن الأدب تجاه صاحب الرسالة، وكانوا في ذروة التوقير له صلى الله عليه وسلم، علما بأنهم كانوا أمة أمية لم تذق قلوبهم حلاوة التحضر ولم تَر عيونهم سوى الجهل والبداوة، ولكن تحول حالهم بعد الإسلام الى أمة تضرب المثل الأعلى في الخلق وحسن الأدب بفضل تربية القرآن وبفضل تربية الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن أمثلة تلك التربية المباركة أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يقدمون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله ورسوله أعلم» ، «فداك أبي وأمي يا رسول الله»، «يا رسول الله أهذا أمر أمرك الله به أم هو الرأي والحرب والمكيدة» وهذه الألفاظ والكلمات تظهر حرص الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ على الأسلوب الأمثل والأدب الأكمل مع صاحب الرسالة .
وها هو عّم النبي صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب يسأله رجل: أأنت أكبر أم رسول الله؟ فقال رضي الله عنه: «هو أكبر مني ولكني ولدت قبله» فما أعظم هذا التوقير والأدب من عّم النبي صلى الله عليه وسلم! إنها التربية الربانية والمدرسة النبوية.
وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تجسد لنا حسن الأدب مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كرسول من رب العالمين، مع بيان طبيعة العلاقة الزوجية وما يتخللها في بعض الأحيان من الهجر والبغض، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول ﷺ: «إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت علي غضبى، قالت: فقلت ومن أين تعرف ذلك؟ قال: أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى قلت لا ورب إبراهيم، قالت: قلت أجل والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك» [صحيح مسلم: 2439]
سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه يترك الطواف بالكعبة المشرفة ويأبى ذلك، وقد أذنت له قريش في الطواف بالبيت، حين وجَّهه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليهم في الحديبية، وقال: «ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم». [سير أعلام النبلاء:3/290-291]
أنس بن مالك رضي الله عنه الذي خدم النبي ﷺ عشر سنوات يقص كيفية طرق الصحابة أبواب النبي ﷺ فيقول: «كانت أبواب النبي صلى الله عليه وسلم تـُقـْرعُ بالأظافير». [رواه البخاري في الأدب المفرد، رقم:1080] توقيرا له وتعظيما لمقامه وخوفا من إيذائه ﷺ.
وُروي أن عمر عمد إلى ميزابٍ للعباس على ممر الناس، فقلعه، فقال له: «أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي وضعه في مكانه» فأقسم عمر: «لتصعدنَّ على ظهري، ولتضعنه موضعه» [أخرجه أحمد: 1/210]. توقيرا للنبي ﷺ .
ومن ذلك أن الله تعالى حكم على الأعراب الذين لا يوقرون النبي ﷺ ولا يراعون أدب الحديث والخطاب معه، وينادونه بأصوات مرتفعة، حكم عليهم بعدم العقل والفهم، قال عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [الحجرات:4] فهذا جزاء من يسيء الأدب مع النبي ﷺ في حياته وبعد مماته، وانظر كيف أنكر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما رأى رجلين يرفعان أصوتهما في مسجد رسول الله ﷺ فقد روى البخاري من طربق السائب بن يويد قال:«كنت قائما في المسجد فحصبني رجل ، فنظرت فإذا عمر بن الخظاب فقال له: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما، قال: من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف. فقال عمر: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ضربا، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله ﷺ ». [صحيح البخاري: 470]
ومن سوء الأدب مع النبي ﷺ عدم الصلاة عليه عند ذكر اسمه، أو رواية أحاديثه، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «البخيل كل البخل الذي ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ» [أخرجه النسائي والترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع] ولهذا يتبين خطأ بعض الكتاب ممن يختصر «صلى الله عليه وسلم» بلفظ «صلعم» بدعوى المحايدة أو الاقتصار أو عدم التجامل، لأن الصلاة والسلام بالنسبة لنا نحن المسلمين دين وطاعة نتقرب بها إلى الله رب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

Bu yazıya yorum bırakmak ister misiniz?