إن الإسلام بأوامره وزواجره ومبادئه وقيمه يرمو إلى إنشاء أمة فريدة، فريدة في اعتقادها، فريدة أخلاقها في، فريدة في تعاملها، فريدة في تصرفاتها، فريدة حياتها كلها، هذه الأمة التي يفتقدها عالم اليوم، بل العالم يبذل ما في وسعه للحيلولة دون ولادة هذه الأمة من جديد، والبشرية بحاجة ماسة إلى أمة ذات قيم ورسالة لم تدنسها سيئات الأمم وخبائثها، لأن الله تعالى لا يقيم العدل والحق إلا بأمة تتمثل الوحي الإلهي وتحقق في نفسها عوامل القيادة والنهوض، «إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: ﴿يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا﴾ [المؤمنون:51]، وقال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم﴾ [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر: أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟. [رواه مسلم].
ومعنى «إن الله تعالى طيب» أي مقدس منزه عن النقائص والعيوب كلها، ومعنى «لا يقبل إلا طيبا» هو – كما قال بعض شُرَّاح الحديث – أنه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيبا طاهرا من المفسدات كلها، كالرياء والعجب، ولا من الأموال إلا ما كان طيبا حلالا، فإن الطيب يوصف به الأعمال والأقوال والاعتقادات، فكل هذه تنقسم إلى طيب وخبيث.
فبناء الأمة الطيبة الفاضلة يحتاج إلى جهاد مستمر وكفاح طويل، لأن الأمة بهذه الصفات والخصوصيات مرشحة لقيادة العالم وإقامة العدل بين الناس، ولن يتحقق بناء الأمة إلا ببناء الفرد المسلم والأسرة المسلمة على قواعد الشرع ومنهج لا إله الا الله، لأن الأمة عبارة عن الأفراد والأسر، فإذا كان الأفراد والأسر صالحين وطيبين فالأمة بدورها تكون صالحة وطيبة، وإذا كان خبثاء وفسدة فالأمة تكون كذلك، لأن ما بني على الفساد لا يمكن أن يكون صالحا.
فالأمة التي يسودها الغش والسرقة والغَصْب لا يمكن أن تكون قائمة بأمر الله، ولا أن تكون ذَات أمن وأمان، ولا أن يعيش أفرادها حياة طيبة، ولا تستطيع تقديم النصح والإرشاد لغيرها من الأمم، لأن من سقط في مستنقع الفساد لا يستطيع إنقاذ غيره من المستنقعات، لأن الله لا يصلح المفسد بالمفسد بل يصلح المفسد بالمصلح.
وحينما يكون أفراد الأمة لا يراقبون الله في شؤنهم وأعمالهم، ولا يقدمون الأفضل في صناعتهم وتصرفاتهم، ولا يتقنون أعمالهم فلن يكونوا إلا أمة فاشلة ومتخلفة، ولن يكونوا إلا مستهلكين لما أتقنه غيرهم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه». [أخرجه أبو يعلى، والطبراني، وقد صححه الألباني].
والأسرة التي لا تقدم النموذج الصحيح في حياتها وسلوكها، ولا تهتم بتنشئة الجيل الصالح، وتنتحر في عالم المادة وحضارة الشهوات لن تقدم في الأمة إلا الدمار والهلاك ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النور:19]، فالأسرة لا بد أن تكون قائمة على العفة والطهارة بعيدة عن السوء والفحشاء، لأنها أساس المجتمع وقاعدة النهضة، وتأمين الحياة الطيبة ﴿والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون﴾ [النور:26] ، أي: المنزهون من أدناس الفواحش وأوضارها.
والأغنياء الذين لا يكفون عن مص دماء الفقراء، ولا يقلعون عن الكسب الحرام، ولا يهمهم إلا ملأ البطون والجيوب، ولا ينفقون إلا من الكسب الحرام، ولا يفرقون بين الحلال والحرام، ولا يبالون بالجائعين والبائسين هؤلاء قد يقومون ببناء المساجد والمدارس والجسور، وقد يتبرعون بمبالغ ضخمة للجهات الخيرية، أو قد يحجون ويعتمرون أكثر من مرة، ولكن الله أمر المسلمين ﴿يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد﴾ [البقرة:267]
والسياسة من الإسلام بمكانة عظيمة، والسياسة جزأ لا يتجزأ من الإسلام، والإسلام بدون السياسة كالجسد بلا روح، ولكن السياسة في الإسلام تقوم على القيم والأخلاق والصدق، كما أنها تقوم على مراقبة الله تعالى والخوف من الآخرة، وحينما تخرج عن مسارها الصحيح فهي شر وفتنة على الأمة، ففي صحيح مسلم مرفوعا: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي أمر أمتي فرفق بهم فارفق به».
والأمة بجميع أطيافها إذا كانت لا تراعي في حياتها الطهر والطيب والمعاملة الحسنة ومراقبة الله تعالى فلن تكون هذه الأمة إلا كسائر الأمم الفاسدة التي أذاقت البشرية مر الحياة وضنك المعيشة، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وقد قال تعالى: ﴿قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث﴾ [المائدة:100].
والحركة الإسلامية التي أخذت على عاتقها مسؤلية الإصلاح وبناء المجتمع الإسلامي لا بد وأن تكون متمثلة في الإسلام منهجا وحركة وتفكيرا ودعوة وعملا وتقديما لمشروعات حقيقية وقدوة للغير، وأي انحراف عن المسار الصحيح والمنهج الرباني القويم فسيعرضها للفناء ويجعلها في طَي النسيان .
فالعودة إلى الفهم الصحيح للإسلام في جميع مناحي الحياة، وإلى العمل بالإسلام الصحيح مثل الجيل الأول من الصحابة رضوان الله عليهم، وإلى تقديم الإسلام إسلاما صافيا براقا يسكن في القلوب ويتحرك في الحياة كفيل بإنشاء المجتمع المسلم الذي ننشده ونعمل من أجله، وفي حديث جبريل المتفق عليه: «…. قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد: عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده، لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه». قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟. قال: غشمه وظلمه، ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث» فليس في الإسلام «الغاية تبرر الوسيلة» فأي وسيلة لا توافق شرع الله، ولا تحقق مَرْضَاة الله، ولا تلائم مبادئ الحق والعدل فهي أداة هدم ودمار، ووسيلة وَأدٍ قبل الميلاد.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

Bu yazıya yorum bırakmak ister misiniz?