إن المتدبر في حياة الصحابة وأحوالهم يجد الصورة الكاملة لتعاليم القرآن، والنموذج الحقيقي للتربية النبوية، ويرى المثل الأعلى في استجابتهم وطاعتهم لله ولرسوله، وفي تسليمهم الكامل لتعاليم السماء، وفي إيثارهم اللهَ والرسولَ على كل ما سوى الله والرسول، لأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يمثلون إسلاما حيّا، وقرآنا غضا، وسلوكا راقيا، وتسليما مطلقا، هذا هو «الجيل القرآني الفريد» كما عبر عنه الشهيد سيد قطب رحمة الله عليه، وهو الجيل الذي رباه محمد ﷺ خلال ثلاث وعشرين سنة من التربية والتزكية.
هذا الجيل الفريد ضرب المثل الأعلى في الاستجابة لله ولرسوله، في حياته وسلوكه وعبادته وتعامله وإنفاقه وجهاده ودعوته وصبره وثباته، وسطّر تاريخا جديدا في تاريخ الدعوات، وأسس حضارة القيم والأخلاق والعدل، وساد الدنيا في فترة قصيرة أذهل العالم وحير الدنيا، لأنه جيل تربى على الاستجابة لله وللرسول ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْـمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال:24] وبهذا الجيل القرآني النبوي انتصر الإسلام وانتشر، وزهق الباطل واندثر، وعرفت البشرية معنى الحرية.
صور من الاستجابة في حياة الصحابة
قصة تحريم الخمر، وحينما نتحدث عن الخمر نتحدث عن عادة راسخة في المجتمع، ومشروب منتشر بين الناس فقيرِهم وغنيِّهم، هذا الخمر الذي لا يفارق موائدهم ونواديهم، ولما نزلت آية تحريم الخمر في المدينة المنورة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْـمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: 90] لم يناقش أحد من الصحابة حيثيات الأمر الجديد، ولم يماطل أحد منهم في تنفيذ الأمر، ولم يحاولوا تمييع الموضوع بتبرير الوضع الاقتصادي، أو بالإمهال حتى الانتهاء من المخزون، بل نفذوا جميعا هذا النهي الإلهي فورا وبدون تردد أو اعتراض، وقد روى: أنهم لما سمعوا أية التحريم أراقوا الخمر في طرقات المدينة، وأقلعوا عن شربه بمجرد سماع أمر الله ﴿فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
وها هو الصحابي الجليل أبو طلحة – رضي الله عنه – يسرع الخطى إلى النبي ﷺ بعد ما سمع قول الله عز وجل ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران:92] ملبيا نداء الله تعالى ومستجيبا لأمره، فقال: «إن ربنا ليسألنا من أموالنا، فأشهدك يا رسول الله أني جعلت أرْضِي أي بستاني لله تعالى. فقال رسول الله ﷺ: اجعلها في قرابتك. وفي الموطأ: كانت أحب أمواله إليه بَيْرَحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله ﷺ يدخلها ويشرب من ماء فيها طيبٍ».
وسيدنا زيد بن الحارثة هو الآخر يلبي نداء الرحمن، ويقبل على تنفيذ وصية القرآن ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ حيث عمِد إلى فرس له يسمى سَبَل فقال: «اللهم إنك تعلم أنه ليس ليِ مالٌ أحبُ إليَّ من فرسي هذا سَبَل، فجاء بها إلى النبي ﷺ فقال: هذا في سبيل الله» [القرطبي: 5/199]. هذا هو تعامل الصحابة مع أوامر الله تعالى وتوجيهاته، قبول بلا تردد، وإذعان بلا مبررات، لأنهم على يقين أنهم هم المخاطبون بهذا الخطاب الرباني.
وحينما نزلت هذه الآية: ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: 245] سارع أبو الدحداح لتنفيذ الأمر الجديد، فعن عبد الله بن مسعود قال :لما نزلت: ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله وإن الله لَيريد منا القرضَ؟ قال: نعم يا أبا الدحداح، قال: أرِني يدك يا رسول الله. قال: فناوله يده قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي. قال: وحائط له فيه ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالُها. قال: فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح. قالت: لبيك قال: اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل. [تفسير ابن كثير] والله ما هذا إلا إيمان راسخ وطاعة مطلقة وتطبيق كامل للإسلام.
وحينما حولت القبلة من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام لم يلبث الصحابة إلا مسرعين إلى مرضاة الله تعالى وتنفيذ أمره، عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يُصَلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ»، فَنَزَلَتْ: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْـمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة:144]، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً، فَنَادَى: أَلَا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ، فَمَالُوا كَمَا هُمْ نَحْوَ الْقِبْلَةِ «[روى مسلم:527] وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «بَيْنَمَا النَّاسُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بِقُبَاءٍ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَدِ اُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ». [مسلم: 526]
فتنة أخرى هزت المدينة هزا، وزلزلت مجتمع الصحابة زلزالا شديدا، فتنة الفِرية على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها- زوج النبي- وبنت الصديق، وخاض فيها من خاض وعَصَمَ اللهُ من عصم ، هذه الفتنة التي تولى كبرها رأس النفاق في المدينة والذين في قلوبهم مرض من النفاق، وكان من بين الذين خاضوا في هذه الفتنة الشنعاء « مُسْطَح بن أثاثه»، وكان من المهاجرين البدريين المساكين، وكان سيدنا أبو بكر الصديق يُحسِن إليه ويرعاه، وينفق عليه لفقره، فحلف أبو بكر على ألا يحسِن إليه أبدا، فنزل قول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْـمَسَاكِينَ وَالْـمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النور:22] فما كان من سيدنا أبي بكر -رضي الله عنه- إلا أن استجاب لقول الحق تبارك وتعالى، وقال: «والله إني لَأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى «مُسْطَح» النفقةَ التي كان ينفقها عليه، وقال: لا أنزعها منه أبدا». رضي الله عن أبي بكر فقد ضرب المثل الأعلى في الطاعة والتسليم لله تعالى، في قضية تطاولٍ على شرف وعفة وطهارة ابنته ممن كان ينفق عليهم. إنه الدين … إنه الدين.
ولنأخذ صورة جديدة بعد وفاة النبي ﷺ وكيف أن كتاب الله تعالى هو المرجع وهو المتحكم في نزوات النفس وشهوة الانتقام، وفي صدد هذه الآية ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف:199]. يروي الإمام البخاري هذه الواقعة: «أن ابن عباس قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة، فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس – وكان من النفر الذين يدنيهم عمر – وكان القراءُ أصحابَ مجالس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبابا، فقال عيينة لابن أخيه: يابن أخي لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذِن لي عليه. قال: سأستأذن لك عليه. قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة، فأذن له عمر -رضي الله عنه- فلما دخل عليه قال: هِي! يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتى هم أن يوقع به ، فقال له الحر: «يا أمير المؤمنين قال الله لنبيه ﷺ: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ وإن هذا من الجاهلين»، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله عز وجل.
ومن الأمثلة الرائعة ما جاء في قصة رجل اتخذ خاتما من ذهب وهو لا يعلم أنه محرَّم على ذكور هذه الأمة، قصة فيها دروس وعبر ، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ رأى خاتما من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه وقال: «يَعمِد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده» فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول الله ﷺ خذ خاتمك انتفع به قال: لا والله لا آخذه أبدا، وقد طرحه رسول الله ﷺ. [رواه مسلم]. هذا الرجل لم يعترض ولم يناقش، بل ولم يأخذ الخاتم المطروح لينتقع به، وما أروع قوله: «لا والله لا آخذه أبدا، وقد طرحه رسول الله ﷺ» هذه حياتهم وسلوكهم مع تعاليم الإسلام.
عبد الله بن رواحة رضي الله عنه سمع النبي ﷺ وهو يخطب يقول: «اجلسوا» فجلس مكانه خارجا من المسجد، فلما فرغ قال له: «زادك الله حرصا على طواعية الله وطواعية رسوله» [الإصابة في تمييز الصحابة:4/84 ، البيهقي بسند صحيح]. هذا الصحابي الجليل يجلس في حر الشمس خارج مسجد النبي ﷺ ولا يتحرك من مكانه بمجرد سماع قول النبي ﷺ «اجلسوا» مع أن الأمر بحسب الظاهر كان لمن بداخل المسجد، لأن دقة الانقياد ومسؤلية الطاعة عنده جعلته هو المخاطب بالأمر النبوي.
وموقف الصحابيات في الاستجابة والطاعة لا يقل عن موقف الصحابة الكرام، وهن القدوة المثلى للمسلمات اليوم، ولنسمع إلى قول عائشة رضي الله عنها: «يَرْحَمُ اللهُ نِسَاءَ الـْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ لَمَّا أَنْزَلَ الله ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا» [البخاري:4480] وسرعة الاستجابة لأمر الخالق عز وجل، جعلتهن يقطعن أكسيتهم نصفين ليختمرن بقطعة منها، ولم ينتظرن لحين العودة إلى البيت والبحث عن قطعة أخرى، لأن الإيمان رسخ في قلوبهن فهان كل شيء في قلوبهن .
ومشكلة المسلمين اليوم في الاستجابة لله والرسول، وفي الطاعة المطلقة لله والرسول من غير تبرير ولا مماطلة، ومن غير لف ولا دوران، وكثير من المسلمين اليوم يحاولون ليَّ الأحكام والتحايل عليها حينما تحدثهم بشرع الله تعالى وأحكامه، وقد يجادلون جدالا شديدا للتهرب من تلبية أوامر الله تعالى، كما يدافعون عن موقفهم بتأويل النصوص أو التحايل على أهل العلم لكي يجدوا لأنفسهم حيلة شرعية للتملص من الاستجابة لله والرسول ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مما قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوأ تَسْلِيمَا﴾[النساء:65]
فهل وجدنا من ترك السجارة مثلا؟ أو ترك فوائد البنوك الربوية؟ أو ترك المحرم من المواقع المحرمة على الانترنت؟ أو ترك الغش في التجارة أو الوظيفة؟ أو … أو … لا ، لأن الاستجابة لله والرسول مغشوش فيه بين المسلمين اليوم إلا من رحم الله تعالى، ولذلك لا بد وأن يعيد المسلمون النظر في مفهوم الاستجابة لله والرسول.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

Bu yazıya yorum bırakmak ister misiniz?