إن رسالة الإسلام رسالة ربانية لأنها من عند الله تعالى، ورسالة عالمية لأنها تخاطب جميع الناس ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف:158]، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107] ورسالة شاملة كاملة لأنها تنظم حياة البشر وفق المنهج الرباني ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة:3]. وبعد بحث واستقراء وإمعان نظر في القرآن والأحاديث توصل علماء الإسلام إلى خلاصة تقرب الإسلام المتشعب إلى الأذهان لوحة كاملة، فأدت جهودهم هذه إلى القول بأن الإسلام هو: عقيدة وأخلاق وعبادات ومعاملات، ثم صارت العقيدة قسما برأسها، والأخلاق قسما برأسها، وأما العبادة والمعاملات ففي كتب الفقه مبوّبة، وإن كانت العقيدة والأخلاق لا تخلوان من كتب الفقه من حيث الجملة.
والقرآن المكي ركزت على تأسيس العقيدة في النفوس وترسيخ الأخلاق في السلوك، لأن العقيدة أمر بين قلب العبد وربه، والأخلاق مرآة شخصية المسلم في الحياة، ومن لا أخلاق له كمن لا لباس عليه، والأخلاق كما هي مهمة للأفراد فهي مهمة للأمم والشعوب والحضارات، وبدون الأخلاق فلا قيمة للتقدم العلمي والمعماري والتكنولوجي، كما هو حال عالم اليوم، قال الشاعر:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت * فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
والإسلام حث على التخلق بالخلق الحسن ونهي عن الخلق السيئ وجعل ثمار العبادات من صلاةٍ ﴿…وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالـْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت:45]، وصيامٍ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:183] ، وحجٍ ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة:197] وزكاةٍ ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [التوبة:103] هو التحليَ بالفضائل والتخليَ عن الرذائل من الأخلاق، كما أن القرآن والسنة النبوية اهتما اهتماما كبيرا بالأخلاق سواء كانت أخلاق الأفراد أو المجتمعات، ولنضرب أمثلة على ذلك:
أولا: وصف القرآن الكريم صاحب الرسالة ومبلغ الوحي بأبلغ صفة وأجمعها فقال الحق تبارك وتعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:4] كما حدد النبي ﷺ مهمته ووظيفته بقوله: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ» [الموطأ وصححه الألباني في صحيحه]، وأوجزت كل الإيجاز في بيان وصفه ﷺ وخلقه وتعامله وحسن سيرته أم المؤمنين عائشة ـرضي الله عنهاـ حين سألها سعْد بن هِشَامٍ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ ﷺ فَقَالَتْ: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» [البخاري] ولقبه أهل مكة قبل البعثة «بالصادق الأمين» لما كان عليه من حسن الخلق وجميل الشيم.
قال القاضي عياض: «وأما الأخلاق المكتسبة من الأخلاق الحميدة، والآداب الشريفة التي اتفق جميع العقلاء على تفضيل صاحبها، وتعظيم المتصف بالخلق الواحد منها فضلا عما فوقه، وأثنى الشرع على جميعها، وأمر بها، ووعد السعادة الدائمة للمتخلق بها، ووصف بعضها بأنه جزء من أجزاء النبوة، وهي المسماة بحسن الخُلق، فجميعها قد كانت خلق نبينا محمد ﷺ».
ثانيا: بيان القرآن لفضائل الأخلاق، وحث النبي ﷺ عليها وما يترتب على ذلك من الخير والأجر وجوار النبي ﷺ وقربه يوم القيامة قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل:90] وقال حبيبنا ﷺ: «إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم» [رواه أحمد] وقال ﷺ: «أكثر ما يدخل الناس الجنة، تقوى اللّـه وحسن الخلق » [رواه الترمذي والحاكم] وقال ﷺ: «إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا» [رواه أحمد والترمذي وابن حبان] وقال ﷺ: «ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق» [رواه أصحاب السنن]
ثالثا: بناء الفرد الصاح والأسرة الصالحة والمجتمع الصالح على الفضيلة وحسن الخلق، وقد اهتم القرآن الكريم اهتماما بالغا بتهذيب النفوس وتزكيتها حتى تكون صالحة لقيادة البشرية، ففي جانب الحكم والإدارة قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [النساء:58] وقد حث ﷺ على الأمانة وعدم الخيانة فقال: «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخُن من خانك» [البخاري] .وقال في التقاضي: «إن خياركم أحسنكم قضاء» [رواه البخاري] وفي ناحية المال والتجارة ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُـمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾ [الهمزة:1-3] وقال: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ [المطففين:1-3] وقال رسول الله ﷺ في البيع والشراء: «مَن غَشَّنا فليس منا» [رواه مسلم] وقال ﷺ: «رحم الله رجلا سمحا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى» [رواه البخاري] .وفي جانب الخلق الاجتماعي نجد الأمر الإلهي ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الحجرات:11] وقال رسول الله ﷺ: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى هاهنا – ويشير إلى صدره ثلاث مرات – بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه» [رواه مسلم].
وفي مجال تطهير القلب والنفس من الهوى والأمراض قال النبي ﷺ:« إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ» أَوْ قَالَ:«الْعُشْبَ« [أبو داود، البيهقي] وفي ناحية الإصلاح بين الناس والقضاء على الفساد والفتن قال رسول الله ﷺ «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة» قالوا: بلى، قال: «صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين» [رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح]
وفي معاملة الوالدين وبرهما، والاهتمام بهما وتقديهما على غيرهما: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: «يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك» [مسلم].
وفي معاملة الزوجة خاصة، والمرأة عامة ـ سواء كانت أماً أو أختاً أو بنتا أو زوجة ـ يقول ﷺ: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» [الترمذي] وقال ﷺ: «استوصوا بالنساء خيراً» [البخاري ].
وفي مجال الآداب العامة وحقوق العباد، وحسن المعاملة مع الكبار الصغار والأيتام، وحفظ المجتمع ما جاء عن الرسول الأكرم ﷺ «ليس منا من لم يعرف حق كبيرنا، ويرحم صغيرنا» [أحمد] ، «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» [البخاري] «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئاً» [البخاري]، «إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد» [مسلم] ، «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه» أي: أعابه [مسلم] . «من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة» [البخاري].
الانقلاب أم الجرائم
وأثناء كتابة هذه السطور وقعت حادثة محاولة الانقلاب في تركيا بتاريخ 15/7/2016 التي بائت بالفشل بفضل الله تبارك وتعالى، والانقلاب أيا كان مصدره ودوافعه فهو تَعَدٍّ على الحريات والحقوق، وهو إجرام بكل المقاييس، وطغيان لم يجلب إلا الدمار والخراب للبلاد والعباد، والذين يقومون بالانقلاب عديمو الخلق والضمير والإنسانية، وهم الذين يدبرون مع الأعداء بمكر ودهاء وخبث للقضاء على المشروع الإسلامي، والقضاء على نهضة الأمة وتقدمها، وللحيلولة دون طموحات الأمة نحو مستقبل أفضل، وهذا هو دأب جميع الأعداء والظالمين ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ﴾ [إبراهيم:46-47]، وما يقوم به الانقلابيون من قتل للأبرياء وسفك للدماء وقضاء على الحريات وإضرار بالعام والخاص هو إجرام في حق الدين والأمة والدولة، وهو كما قال تعالى: ﴿…أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة:32] فكل انقلاب إلى زوال بإذن الله تعالى عاجلا أو آجلا.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

Bu yazıya yorum bırakmak ister misiniz?