إن الناظر في الحياة والمتأمل في سُنَّة التدافع بين الحق والباطل يجد بوضوح ما يصيب المسلمين من المحن والفتن والعقبات، وما يتعرض له الدعاة والمصلحون من الابتلاء والتمحيص في سبيل عقيدتهم ونصرة دينهم، وقد يصل بهم الأمر إلى اليأس والقنوط لهول ما يَرَوْن من البطش والتنكيل والعذاب، وهذا الأمر ليس جديدا على الساحة، ولا وليد هذا العصر بل هو قديم قدم صراع الحق مع الباطل، ومتجدد تجدد مجابهة الإيمان والكفر، فلا الباطل قعد عن حرب الحق ولا الحق رفع الراية البيضاء أمام الباطل، وفي خضم هذا الصراع بين الحق والباطل قد يتطرق اليأس إلى القلوب ويقعد بعض العاملين عن مواصلة الطريق وتبلغ القلوب ذروة الحيرة واليأس ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة:214] ولكن سرعان ما تنقشع سحائب الظلمات، وتسكن الرياح العاصفة، وتأتي البشائر الربانية التي تعيد إلى القلوب الأمل، وتزرع في النفوس الثقة في وعد الله تعالى لعباده المؤمنين.
لا مكان لليأس
إن اليأس مرض فتاك، وداء عضال لأهل الحق، ولا يكون اليأس في أمة إلا جعلها ذليلة وتابعة للغير، ولا يكون في جماعة إلا وأدها، ولا في فكرة وحركة إلا قضى عليها، ولذلك كان الأنبياء عليهم السلام لايعرفون اليأس رغم المحن والشدائد، ورغم طول الطريق والعوائق، ورغم جحود الشعوب والقبائل، فها هو نوح -عليه السلام- يواصل المسير ويدعو قومه إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاما ولم تلن له قناة، ولم يفت في عزيمته إعراض قومه عن الدعوة واستهزائهم به، فكان النصر والنجاة ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ *أَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [العنكبوت:14-15]
وإبراهيم عليه السلام يعلن الحرب على الوثنية، ويقيم الأدلة على فساد عقيدة قومه، ويجابه الطاغوت في جبروته وسلطانه، وكله أمل في الله وهو يقول: «حسبنا الله ونعم الوكيل» قالها الخليل عليه السلام عندما ألقي في النار فأنزل الحي القيوم أمره ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾[الأنبياء:69-70] وقالها محمد ﷺ وصحابته الكرام رضي الله عنهم حينما تلقوا هذا التهديد: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ [آل عمران:173-174]
ويعقوب عليه السلام هذا الأب الذي امتحن في فراق فلذة كبده، وفقد أعز ابنائه بعد أن تآمر عليه إخوته، وبعد غياب دام سنوات طوال، هذا الأب يضرب المثل في الأمل في الله تعالى ﴿ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف:87] يقول وكله ثقة بأن الله يدبر من فوق سبع سموات، وأنه تعالى بيده الأمركله ﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَن تُفَنِّدُونِ ﴾ [يوسف:94].
وهذا موسى عليه السلام يواجه طغيان فرعون وجنوده، ويصارع دولة قوية كبرى، وحينما جاء وقت الحسم بين الحق والباطل، وبلغ الباطل ذروته، وزلزل بنو إسرائيل، إذا بموسى عليه السلام يعلن بكل قوة وثقة وأمل معية الله تعالى ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [61-68]
مع رسول الله ﷺ .. زاد الأمل
إن عصر الرسالة بقيادة محمد ﷺ مليء بالعقبات والصعوبات، وإن الدعوة تسير الى الإمام وهي تصارع جاهلية الكفر والوثنية، وتشق الطريق رغم كيد الكفار والمشركين، وتبني الأمل في النفوس المؤمنة وهم ما زالوا في بداية الطريق، سيدنا خباب بن الأرت يقص ما تعرض له المسلمون في مكة فيقول: شكونا إلى رسول الله ﷺ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» [صحيح البخاري] فالرسول ﷺ يغرس فيهم الأمل والثقة في وعد الله تعالى، ويعدهم لمعركة تقضي على الوثنية والكفر .
وحينما كانت الدعوة الإسلامية تجابه صناديد الكفر، وتقاوم طواغيت مكة، وقعت حرب بين الفرس الوثنين والروم أهل الكتاب، هذه الحرب التي أثلجت قلوب المشركين فرحا وابتهاجا بما حققته الوثنية الفارسية، كما أدمت قلوب الفئة المؤمنة بهذه الهزيمة لأهل الكتاب، وإذا بالوحي ينزل يبشرهم بانتصار الروم على الوثنيين وانتصار المسلمين على مشركي مكة ﴿ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)﴾ [الروم:1-5] هذا هو الأمل.
الجماعة المؤمنة بقيادة محمد -صلى الله عليه وسلم- تتعرض لكل أنواع الظلم والتنكيل، وتحاصر في شعب أبي طالب، وتفتن من أجل عقيدتها، وفي هذه الأجواء المظلمة ينزل قول الله عز وجل ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾ [القمر:45-46] قال عكرمة: لما نزلت ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ قال عمر رضي الله عنه: «أي جمع يهزم ؟ أي جمع يغلب؟ قال عمر:فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله ﷺ يثب في الدرع وهو يقول: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ فعرفت تأويلها يومئذ «!. إنه الأمل إنه الأمل.
وَمِمَّا تجدر الإشارة إليه أن نبينا محمدا ﷺ قد بشر أمته ببعض المبشرات التي تكون بمثابة جائزة ووسام للأمة وقادتها ودعاتها عندما يحيط بالأمة الخطوب، وتتكالب عليها الأمم كما تتكالب على قصعتها، وتصل القلوب الحناجر ، تأتي المبشرات النبوية بردا وسلاما على قلوب المؤمنين ليطمئنوا على سير الدعوة في الاتجاه الصحيح، فبعضها قد تحقق وبعضها سيتحقق بلا شك وريب.
يوم الهجرة يخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع صاحبه أبي بكر من مكة وقد خطط لهذا الحدث الكبير تخطيطا محكما، من سرية واختفاء في الغار، ولكن المشركين وضعوا جائزة مائة من الإبل لمن يأتى بهما حيّين أو ميتين، وأراد سراقة بن مالك أن يفوز بهذه الجائزة ، فتبعهم حتى دَنا منهم ولكن القدرة الإلهية حالت بينه وبين ما يريد، هنا قال له النبي ﷺ – وهو طريد وحيد مهاجر -: «كيف بك إذا لبست سوارى كسرى؟» وتمضي الأيام وتأتي الفتوحات الإسلامية، وتتحق بشرى الرسول ﷺ لسراقة بن مالك، فلما أوتى عمر بسواري كسرى ومنطقته وتاجه دعا سراقة بن مالك فألبسه إياهما فقال: الله أكبر الحمد لله الذي سلبهما كسرى ابن هرمز الذي كان يقول أنا رب الناس وألبسهما سراقة بن مالك [الاستيعاب:2/581 – ترجمة 916، الإصابة:3/41، ترجمة 3117] يا سبحان الله! يبشر من جاء لقتله بفتح فارس وأنه سيلبس سواري كسرى! أي أمل هذا! أي ثقة هذه! أي اطمئنان إلى وعد الله هذا! إنه الأمل في الله!.
يوم الأحزاب يوم عصيب في تاريخ المدينة المنورة وفي تاريخ الإسلام، تحالفٌ غير مسبوق من أحزاب الكفر والشرك ومساندة من اليهود للقضاء على الدولة الإسلامية في المدينة، ولقد شاور النبي ﷺ الصحابة في كيفية التصدي لهذه الحرب وإدارتها، واقترح سيدنا سلمان الفارسي -رضي الله عنه- بضرب خندق حول المدينة، وأثناء الحفر والعمل ظهرت صخرة عصت على التكسر والتحطم حتى شكوا إلى رسول ﷺ أمر هذه الصخرة، ولنُصغِ إلى القصة فعَنْ عَبْدِ اللّـهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنه- قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالْخَنْدَقِ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَأَتَاهُ قَوْمٌ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ وَجَدُوا صَفَاةً لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُنَقِّبُوهَا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُمْنَا مَعَهُ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَضَرَبَ، فَلَمْ أَسْمَعْ ضَرْبَةً مِنْ رَجُلٍ كَانَتْ أَكْبَرَ صَوْتًا مِنْهَا فَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ , فُتِحَتْ فَارِسُ، ثُمَّ ضَرَبَ أُخْرَى مِثْلَهَا فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ فُتِحَتِ الرُّومُ ، ثُمَّ ضَرَبَ أُخْرَى مِثْلَهَا فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَجَاءَ اللَّهُ بِحِمْيَرَ أَعْوَانًا وَأَنْصَارًا». [عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أبي الزناد:191] بشرى بفتح فارس والروم وإسلام حمير.
ولقد بشر النبي ﷺ بفتح القسطنطينية (استنبول) ورومية (روما) وقد تحققت الأولى وستتحقق الثانية كما أخبر المصطفى ﷺ عن عبد الله بن عمرو قال: «بينما نحن حول رسول ﷺ نكتب إذ سئل رسول الله ﷺ أي المدينتين تفتح أولا قسطنطينية أو رومية؟ فقال النبي ﷺ لا بل مدينة هرقل أولا ـ يعني القسطنطينية» [رواه الحاكم في المستدرك وغيره. صححه الذهبي في التلخيص، والألباني في السلسلة الصحيحة].
وكما ورد في فتح القسطنطينية أنه ﷺ قال: «لتفتحن القسطنطينية ولنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش» [روه الإمام أحمد في المسند والحاكم في المستدرك. قال عنه الذهبي في التلخيص: صحيح. قال الألباني في السلسلة الصحيحة: وقد تحقق الفتح الأول ـ يعني فتح القسطنطينية ـ على يد الفاتح العثماني بعد ثمانمائة سنة من إخبار النبي ﷺ بالفتح، وسيتحقق الفتح الثاني ـ بإذن الله تعالى ـ ولا بد]. اهـ.
كما بشر رسول الله ﷺ بانتصار المسلمين على اليهود قبل قيام الساعة، وستكون هذه الملحمة نهاية للهيمنة اليهودية، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود» [صحيح مسلم:2922]. فلا بد من غرس الأمل في نفوس المؤمنين فغرس الأمل لا يقل أهمية من غرس الإخلاص والعمل والتضحية، لأن الأمل روح هذا الدين ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر:51] قال الشاعر:

Bu yazıya yorum bırakmak ister misiniz?