إن الأمة الإسلامية تمر بمحنة عصيبة تجعل الحليم حيران من شدة ما ألم بها، وتُفقد أولي النهى رزانتهم وحِكمتهم، وتزلزل القلوب المؤمنة زلزالا تكاد تزيل الجبال الراسخة وتُشقِّق الصخور العالية، هذه المِحنة صورها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَتَدَاعَى الأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا، قُلْنَا: مِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: لا، أَنْتُم يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، يَنْزَعُ اللَّهُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ، قِيلَ: وَمَا الْوَهَنُ؟ قَالَ: حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ» [سَنَن أبي داود – مسند الإمام أحمد] هذه المِحنة وهذا الابتلاء شمل العالم الإسلامي كله، وغطى الأمة من شرقها إلى غربها، ومن جنوبها إلى شمالها، هي محنة ليست كأي محنة، وابتلاء ليس كأي ابتلاء، كأنها الصورة الحقيقية لهذه الآية: ﴿إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [الأحزاب:10-12] فهذه المحنة التي يمر بها العالم الإسلامي تفسير حي وتأويل واقعي لهذه الأيات البينات. كما هي سنة ربانية في حياة جميع الرسل والدعاة لتمحيص الأمة وتأهيلها لتلقي النصر ولقيادة البشرية نحو الحرية والخلاص ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [ البقرة:214].
وشدة المحنة في هذا العصر في صعوبة التمسك والالتزام بهذا الدين، وفي تراكم الفتن بعضها فوق بعض حتى أصبحت مواقف الناس متأرجحة بين الكفر والإيمان، والمنافع الدنيوية الفانية والثواب الأخروي الباقي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »ويل للعرب من شر قد اقترب، فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، يبيع قوم دينهم بعرض من الدنيا قليل، المتمسك يومئذ بدينه كالقابض على الجمر، أو قال على الشوك« [رواه الإمام أحمد في مسنده وصححه الأرناؤوط، وفي رواية الترمذي وصححه الألباني]: »يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر«. على الجمر يا رسول الله!! نعم المسلم الحق الملتزم بتعاليم الإسلام كالقابض الجمر،
والأمة مرت في تاريخها بفترات صعاب وفي كل مرة يقيض الله لها رجالا يعيدونها إلى مكانتها، ويوقظونها من النوم العميق، ويعزونها بعد ذُل أقعدها وأضعفها، واليوم أصيبت الأمة في عقر دارها، وخذلها القريب قبل البعيد، وحاربها أبناء جلدتها قبل عدوها، وخانها ساستها وعلماء السوء فيها فلم يبق لها إلا الله والمخلصون من العلماء والدعاة والشباب المسلم والأخوات المسلمات.
ففلسطين الجرح الغائر والغدر الدولي المتحالف مع الصهاينة، تنزف دما ما يقرب من قرن، دمار وقتل وتشريد وحصار جائر، تذكرنا بحصار قريش النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه في شعب أبي طالب، وبإخراج الجماعة المسلمة بقيادة محمد صلى الله عليه وسلم من مكة وتهجيرهم والاستلاء على أموالهم.
ومصر وما أدراك ما مصر!؟ حيث قوى الشر والطغيان تعيث فيها فسادا، وفرعون ظهر من جديد بلباس القرن الواحد والعشرين، يحرق مسجد رابعة العدوية بمن فيه من الجرحى، ويقتل الآلاف من العلماء والشباب والشيوخ، ويسجن الأبرياء بغير ذنب ولا جريرة إلا أن قالوا ربنا الله، ﴿طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: 1-4]
وسوريا!! الشام!! تكالب عليها الشيعة وحزب اللَّات مع النصيرية لقتل المسلمين فيها، أنهار من الدماء تسيل، وأطنان من المتفجرات تسقط على رؤس النساء والأطفال والشيوخ، أي عداء هذا!؟ وأي حقد هذا!؟ يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إيمان وإسلام، وما يجري في سوريا وفي حلب على الخصوص يذكرنا بقصة أصحاب الأخدود النار ذات الوقود، القصة التي سجلها القرآن لتكون عبرة ودرسا، يقول تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ [البروج:1-10] ما أشبه حلب اليوم بأصحاب الأخدود!!.
وإيران دولة الملالي والعمائم، دولة ولاية الفقه، دولة العداوة لأهل السنة والجماعة، دولة الفتنة المذهبية في العالم الاسلامي، هذه الدولة التي لم تكرس جهودها إلا لتصدير التشيع والفتنة بين المسلمين، وإزهاق أرواح الأبرياء من أهل السنة في إيران، وإعدام الشباب المسلم بالرافعات، فهي مسمار مسموم في حلق السنة وخنجر خائن في ظهر الأمة الإسلامية، وباسم الإسلام يقتلون أهل الإسلام، ويفعلون بهم الأفاعيل، ومازال الحقد الكسروي والصفوي دينا في نفوسهم وسلوكهم، يُظهرونها يوم تكون الأمة مغلوبة على أمرها.
والمحسوبون على الإسلام وعلى المؤسسات العلمية والإسلامية، الذين يقفون مع الطغات ويصفقون للمجرمين ويبررن بالفتاوى الزائفة الانقلابَ على المشروع الوسطي الإسلامي، ويحرضون على سفك الدماء الطاهرة وقتل المعصومين الأبرياء، هؤلاء الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، ويتخذون دين الله لهوا ولعبا، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان» [رواه أحمد:1 / 22].
وأما أعداء الإسلام من الصهاينة والصليبين والعلمانيين والشيوعيين والهندوس وغيرهم فهم في حرب دائمة مع الإسلام والمسلمين،يخططون ويكيدون للحيلولة بين الأمة الإسلامية وبين عودتها لديناه ونهضتها من كبوتها، ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [32:التوبة].
فالوضع بحق صورة طبق الأصل للحديث النبوي الشريف الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تأتي على الناس سنوات خدعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين وينطق فيهم الرويبضة، قيل: يا رسول الله وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة« [رواه الحاكم:4/ 513 / 8439-أحمد 2/291] انقلبت الموازين في كل شيء، فأصبح المجنون حكيما، والخائن أمينا، والسفيه حكيما، وإمعةُ الناس قدوة، وأقذر الناس شريفا، ولا ينقذ البشرية من هذا النفق المظلم إلا أمة الإسلام، ولا ينقذ أمة الإسلام من هذه المحنة الصعبة إلا عودتها إلى الإسلام الصحيح الشامل جميع جوانب الحياة وتكون هذه الآلام هي الآلام التي تسبق ولادة الأمة من جديد، وتسبق المشروع الإسلامي، وتسبق انتصار الأمة، وتحرير المقدسات، وحرية الشعوب، كما قال شهيد الظلال سيد قطب: لا بد للأمة الاسلامية من ميلاد ولا بد للميلاد من مخاض ولا بد للمخاض من آلام. ويقولون: متى هو؟ قل: عسى أن يكون قريبا.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

Bu yazıya yorum bırakmak ister misiniz?