مما لا شك فيه أن الله تعالى خلق الكون على أساس قانون الحكمة ، ونظمه أحسن ما يكون التنظيم، وأبدعه على العبودية التامة وجعله منقادا ومطيعا للخالق عز وجل ( أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون (48) ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون (49) [سورة النحل]
فالكون بجميع مكوناته – ما نعرفه وما لا نعرفه – منقاد للباري عز وجل أتم انقياد، ومطيع أكمل طاعة، وخاضع لنظم وقوانين ربه بحيث لا يحيد عنها قيد شعرة.
وشائت إرادة الله عز وجل أن يخلق مخلوقا مختلفا لباقي الكون في عبوديته وطاعته، يكون هذا المخلوق في غير الأمور التكليفية مثل باقي الكون في تمام العبودية والخضوع والطاعة أى لا اختيار له كالحياة والموت وحركات القلب وغير ذلك، ولكنه في مجال التشريع والتكليف وحمل أمانة الوحي خصه الله بخصوصية الإرادة والحرية والاختيار، وهم الجن والانس (وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون) لم يخلقهم على منوال هذا الكون، بل كلفهم بحمل الأمانة والتكليف (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب: 72].
اذا خلقنا لنعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا، ولنجعل حياتنا كلها خاضعة لشرع الله تعالى، ولنسير على منهج لا إله الا الله محمد رسول الله، حياة كلها طاعة وعبادة لله تعالى، حياة تقوم على القيم الربانية والمبادىء القرآنية، حياة لا تعرف طريقا الا طريق الحق، ولا تتبع منهجا الا منهج الوحي الإلهي، ولا تسلك الا صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً (69)﴾ [سورة النساء] فمهمتنا نحن المكلفين عبادة وطاعة وخضوع وتذلل لله رب العالمين.
والمسلم الصادق يتحرى اللذة في عبوديته وطاعته لربه، لأن العبودية الخالية عن هذه اللذة كالطعام الذي لا لذة فيها ولا طعم له، ولذلك قال بعض السلف: (لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف). اي: لو علم الملوك والرؤساء وأبناؤهم ما عليه أهل الصلاح والإيمان من لذة العبودية وطعم الطاعة لله لقاتلوهم على ذلك بالسيوف، ولذلك وصف تعالى رسوله بعبده (سبحان الذي أسرى بعبده من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آيَاتِنَا إنه هو السميع البصير) [سورة الإسراء ] وفي رحلة المعراج ( فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) [سورة النجم ١٠] فصفة العبودية أحب الصفات الى نفس النبي والى النفوس المؤمنة
قال القاضي عياض:
ومما زادني شرفاً وفخراً … وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي … وأن صيرت أحمد لي نبيا
وهذا هو سر ثبات أهل الحق في وجه طوفان الباطل عبر التاريخ، سيدنا نوح عليه السلام يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ويتحمل في سبيل ذلك كل المحن والشدائد، سيدنا موسى وهارون يتحديان طغيان فرعون وجنده وهما ثابتان على النهج المستقيم لا يثنيهما طغيان فرعون ولا جبروته، ابو الأنبياء سيدنا ابراهيم يضرب المثل في الدعوة والتضحية والهجرة، وخاتم الانبياء سيد الاولين والاخرين يقدم المثل الأعلى في العبودية والطاعة والجهاد والهجرة، وهذه الرواية تصور لنا كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلذذ من العبودية والطاعة لله عز وجل عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : ( كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا صلى قام حتى تفطر رجلاه .. قالت عائشة : يا رسول الله أتصنع هذا وقد غُفِرَ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟! ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورا )(صحيح مسلم) . قال بعض الصالحين:
من اعتز بالمولى فذاك جليل … ومن رام عزا من سواه ذليل
ولو أن نفسي مذ براها مليكها … مضى عمرها فِي سجدة لقليل
ولنستعرض على سبيل المثال قصة السحرة! سحرة فرعون، جاؤا من كل صوب وحدب لنصرة الطاغوت، وجلب المنافع والمناصب، ولكنهم بعد أن رأوا المعجزة البينة تحولوا الى مناصرين للحق مدافعين عنه، وهنا يتحير الانسان ويقف عاجزا عن التوصيف والبيان، فما هذه اللذة التي جعلتهم يؤثرون الموت على الحياة والجاه والمال!؟، وما هذا الثبات الذي يُقلع جزور الباطل!؟ وما هذا الاستعلاء الذي حطم كل المنافع والمغريات!؟ انه لذة العبودية لله رب العباد.
وسورة الاعراف تستعرض هذا الموقف التارخي الفريد، حيث أمر فرعون بحشد جميع السحرة من كل أقاليم مصر في يوم معلوم لعلهم يغلبون موسى وهارون (وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ {113} ما ذا يطلب هؤلاء السحرة؟ يطلبون المال والجاه، وفرعون يعدهم بالوعود المغرية، وكل همهم الحصول على المال والمناصب، بل ويعدهم بالمناصب المقربة إليه (قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ {115} وبدأت المعركة بين الحق والباطل، موقف مذهل، أهل الباطل متمثلا في فرعون وجنوده وسحرته والجمهور الحضور، وأهل الحق متمثلا في سيدنا موسى وهارون عليهما السلام ومعهما الله يسمع ويرى، من سيبدأ؟ (قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ {116} هنا جعل بداية المعركة في أيدي السحرة حتى يجمعوا كل ما لديهم من الباطل فيمحقه الحق بضربة قاضية.
وتدخلت العناية الربانية، وحان وقت حسم المعركة واستعلاء الحق وإعلان النصر المبين ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ {117} فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ {118} فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ {119} لم يثبت الباطل أمام الحق، ولم يروا الا الهزيمة المنكرة لباطلهم والنصر المبين للحق الابلج.
ولكن المفاجأة الكبرى التي لم تكن في الحسبان ولم تخطر على بال أحد، المفاجأة التي قضت على الباطل المتجبر، المفاجأة هي اسلام السحرة (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ {120}‏ قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ {121} رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ {122} وقر الإيمان في قلوبهم واستقر في وجدانهم وذاقوا حلاوة العبودية لله رب العالمين.
ولكن فرعون بدأ يهددهم، ويوعدهم بالقتل والصلب والتشريد، يهددهم بكل انواع العذاب والقتل، ويتهم بالمؤامرة والخيانة والعمالة، هكذا أهل الباطل في كل زمان ومكان (قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَـذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْف تَعْلَمُونَ {123} لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ {124}
والعجيب أن هؤلاء السحرة كانوا في ضيافة فرعون وإكرامه، وكانوا مرشحين للمناصب العالية فضلا عن المال والجاه قبل المعركة، وبعد المعركة وبعد الإيمان لا يؤثرون على الحق والإيمان والعبودية أي شيء من حطام الدنيا والجاه الزائف رغم التهديد والايعاد بالقتل والصلب (قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ {125} وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ {126})
هؤلاء السحرة كانوا في الغداو عند فرعون مكرمين معززين، وفي المساء ذهبوا الى بارئهم في جنات الخلد دائمين، لم يترددوا في موقفهم وإيمانهم لحظة، لأن من يشرب من كأس العبودية الخالصة لله تعالى تهون عليه كل الملذات والمغريات الدنيوية كما ت المفاجأة هون عليه كل المحن والتهديدات.
والمسلم في دعائه وتضرعه يشعر بلذة الاعتراف بعبوديته للخالق جل وعلا، والأوبة الدائمة إلى الله، والإقرار بالذنوب والتقصير، قال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ قَالَ وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ) (صحيح البخاري)
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

أبو حمزة مصعب عارف الباتماني / Musab Arif Gündüz

Bu yazıya yorum bırakmak ister misiniz?