لم يبعث الله نبيا ولا رسولا إلا لإصلاح الناس وإرشادهم وتزكية نفوسهم، ولم يبعث الله نبيا ولا رسولا إلا بعد أن ضَل الناس واتبعوا أهواءهم و انحرفوا عن طريق الحق، فكل نبي وكل رسول بعثه الله تعالى كانت مهمته ووظيفته إصلاح قومه وإرشادهم إلى الوحي الإلهي، وتخليصهم من الجاهلية التي برزت للوجود بعد وفاة الأنبياء والرسل، وبعد مرور زمن على دعوة المصلحين. يقول تعالى على لسان شعيب عليه السلام: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚعَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود:88]
فالإصلاح منهج الأنبياء والرسل على مدار التاريخ، بدءا من سيدنا آدم عليه السلام إلى خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله ﷺ، وهذا الإصلاح إصلاح شامل في جميع شؤون الحياة، بدءا من إصلاح العقيدة التي هي الأساس وإصلاح الأخلاق التي هي معدن النفوس، وإصلاح المعاملات التي هي شريان الحياة، وإصلاح النفوس التي هي ميدان الخير والشر، ولذلك كانت مهمتهم من أصعب المهمات، وكان ابتلاؤهم في سبيل دعوة الحق وإخراج الناس من الكفر والظلمات، وإحقاق الحق وتفنيد الباطل من أشد الابتلاءات كما قال ورقة بن نوفل: «يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا» [رواه البخاري: 4] لأن إصلاح النفوس والشعوب أمر صعب ووظيفة شاقة، لا يقوم بها إلا الأنبياء والمصلحون، ولا يتحمل هذا العبء الثقيل إلا أصحاب الهمم العالية .
ولم يكن الانقضاض على الأوضاع والانقلاب بالقوة على السلطة ديدنا للأنبياء والمصلحين، ولا منهجا ربانيا لإصلاح العباد وإكراههم علي الإيمان، بل نفى سبحان وتعالى أسلوب الإكراه ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 256] ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس:99] وإنما كان منهجهم – عليهم السلام – هو الدعوة والتبليغ وإقناع الناس بحقائق الوحي وثوابت الإيمان، وفي بداية البعثة قد عرض المشركون علي النبي الملك والسلطة «قال عتبة بن ربيعة يوما وهو جالس في نادي قريش والنبي – عليه الصلاة والسلام- جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلّمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا ـ وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله يزيدون ويكثرون ـ فقالوا: بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السِّطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرَّقت به جماعتهم وسفّهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم، كفرَّت به من مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها، فقال رسول الله ﷺ: «قل يا أبا الوليد أسمع»، قال: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيّا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نُبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُداوى منه، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله يستمع منه قال ﷺ: «أقد فرغت يا أبا الوليد»؟ قال: نعم، قال: «فاسمع مني»، قال: أفعل، قال: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم * حم * تَنزِيلٌ مّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَبٌ فُصّلَتْ ءايَتُهُ قُرْءانا عَرَبِيّا لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرا وَنَذِيرا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾ (فصلت:1 – 4)، ثم مضى رسول الله فيها يقرأها عليه، فلما سمعها عتبة منه أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يستمع منه ثم انتهى رسول الله ﷺ إلى السجدة منها فسجد، ثم قال: «قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك»[سيرة ابن هشام] وكان من الممكن أن يقبل النبي ﷺ هذا العرض وبعد التمكن من مقاليد الحكم ينقلب على الشرك والمشركين في مكة، ولكن قال كلمته المشهورة «يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته» لأن طبيعة رسالة الإسلام هي الإصلاح الشامل، والإصلاح الشامل لا يكون إلا بالحكمة والموعظة الحسنة والإقناع.
فالاسلام لا يقبل في مساره الدعوي والإيماني إلا ما رضي الله به وأمر به رسله وأنبيائه، ولا ينتهز الفرص للانقضاض، ولا يعرف الخيانة ولا الغدر، ولا يتبني قاعدة (الغاية تبرر الوسيلة) لأن الاسلام جاء لإصلاح الناس ولا يكون الإصلاح إلا بالمنهج الرباني الذي لا ظلم فيه ولا طغيان ولا عدوان ولا خيانة ولا انتقام ولا ثأر ولا … ولا … لأن الإسلام جاء لإنقاذ البشرية من الظلم والعبودية والقهر والطغيان، فلا يمكن أن تكون الوسيلة إلى ذلك الإنقاذ انقضاضا وظلما وطغيانا، فالاسلام فقط لديه المنهج الفريد في الإصلاح الشامل الكامل والإسلام فقط لديه تجربة تاريخية في الإصلاح، إصلاح الفرد والأسرة والمجتمع، إصلاح الدنيا بالدِّين.

Bu yazıya yorum bırakmak ister misiniz?