الحديث عن الرجال الذين لهم تأثير في المجتمع، وتركوا وراءهم أثرا طيبا، وبصمة واضحة من أصعب المهمات وأثقلها، لأن هؤلاء الرجال اصطفاهم الله لهذه المهمة واختارهم لقيادة هذه المرحلة، وحلّاهم بقدرات قلما تكون في غيرهم، فهم ضمان تواصل الأجيال، وهمزة وصل بين اللاحق والسابق، ألا وهم الدعاة والعلماء والمصلحون والقادة.
وفي هذا المقال يكون الحديث عن الإمام الشهيد حسن البنّا مؤسس جماعة»الإخوان المسلمين»، هذا الإمام الذي أسس الجماعة وهو في ريعان شبابه ليعيد المسلمين إلى الإسلام الصافي الشامل من جديد، وليبني جيلا جديدا لا يرضى بغير الاسلام منهجا للحياة، وليربي جيلا من الشباب على أيديهم ستتحرر الأوطان من السيطرة الأجنبية، ولينشر الإسلام نظاما شاملا متناولا مظاهر الحياة جميعا، وليحقق أمنية غالية في نفوس المسلمين في جميع بقاع الأرض وهي إقامة الخلافة الإسلامية وأستاذية العالم.
أسس جماعة «الإخوان المسلمون» والأمة في حالة ضياع لا دولة لها ولا خليفة، فقد مزقها أعداء الإسلام إربا إربا، وفرقوها دويلة دويلة، واحتلوها قطعة قطعة، أسسها لتخرج الأمة من هذا الكابوس وتنقذها من هذا الضياع، أرسى في القلوب معالم الجهاد من جديد، ورسخ في وجدانهم أن لا خلاص من الاستعمار وهيمنة الغرب إلا بالعودة الصادقة إلى الله تعالى وبالجهاد الصحيح، ولذلك حدد مفهوم القوة بقوله: «يعلمون –أي الإخوان– أن أول درجة من درجات القوة، قوة العقيدة والإيمان، ثم يلي ذلك قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدهما قوة الساعد والسلاح، ولا يصح أن تُوصف جماعة بالقوة حتى تتوفر لها هذه المعاني». [رسالة المؤتمر الخامس] فقاوم الاحتلال الإنكليزي بالشباب المسلم، وجاهد في فلسطين عصابات الصهاينة بالمجاهدين المتطوعين، وضربوا أروع البطولات في ميادين الجهاد، وأعادوا إلى الأذهان بطولات السابقين في بدر وأحد وحنين وحطين وعين جَالُوت، وأذاقوا الإنكليز والصهاينة مُرَّ العذاب، فلم تكن الجهاد في مدرسة الإمام كلاما نظريا، ولا خطبا رنانة، ولكن كان تطبيقا عمليا ضد الاستعمار وضد المحتل في فلسطين، وتطبيقا حقيقيا لهذا الشعار الدائم «الجهاد سبيلنا».
دعا إلى الله تعالى وتحرك بدعوته بين القرى والنجوع، وبين الشباب والشيوخ، وبين العلماء والمفكرين، وبين النساء والرجال وفي جميع قطاعات المجتمع، لم يكن همه إلا دعوته، يُؤْثِر دعوته على كل شيء، يدعو ويؤسس ويربي ويتحرك لنشر الإسلام بين الناس، ولم يقتصر جهاده ودعوته على مصر فقط بل تعدى خارج الحدود المصرية، وكان الطلاب الوافدون في الأزهر الشريف سفراء هذه الدعوة المباركة، وحامل رايتها، فانتشرت الدعوة الإسلامية بقيادة المدرسة الإخوانية في البلدان العربية والإسلامية، كما استغل الإمام موسم الحج في التعرف على المسلمين وعلى أحوال المسلمين في العالم الإسلامي، والتنسيق معهم من أجل نشر الإسلام الصحيح.
وكان -رضي الله عنه- حكيما في دعوته، يؤلف ولا يفرق، يبني ولا يهدم، يتواصل ولا يقاطع شعاره «نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بَعضُنَا بعضا فيما اختلفنا فيه» يُؤَثِّرُ في السامعين، ويهتم بالقادمين عليه، يحنو عليهم ويجلس معهم في أسرهم وكتائبهم ومعسكراتهم، ويجتمع معهم حول المأثورات وورد الرابطة، ويتعرف على الجديد منهم، ويربيهم على الأخوة في الله والحب فيه، ويجعل الإيثار أعلى درجات الأخوة، ويجعل الإخوة ركنا من أركان بيعتهم، حتى قال أحد الكتاب المصريين عنهم: «لو عطس أخ في أسوان لشمّته أخوه في القاهرة».
لم يشتغل بتأليف الكتب وتحقيق المخطوطات بل تفرغ لتأليف الرجال وصناعة الأبطال ممن يحملون أمانة الدعوة، ويجددون مسار الحياة، كتب «رسالة التعاليم» الدرع الواقي لفكر مدرسة الإخوان، وقبله «المأثورات» الزاد الروحي على الطريق، ولم تكن «رسالة الجهاد» ، و»دعوتنا»، و»الإخوان المسلمون تحت راية القرآن»، إلا مشاعل تضيء الطريق في ظلمات الحياة، عرفتهم ميادين البذل والعطاء، وساحات الجهاد والفداء، وجدران السجون وزنازين الطغاة، صبروا وصابروا، لم يألوا جهدا لدعوتهم وأمتهم، ولم يثنهم عن مواصلة طريقه وقوف الأنظمة المستبدة وقوى الشر العالمية ضدهم، فهم برَوح الله ماضون وعليه متوكلون وفي نصره يأملون.
ومن سَنَن الله تعالى التمحيص والابتلاء، وبقدر ما تكون الدعوة على منهج النبوة يكون الابتلاء والتمحيص، ولذلك يقول الإمام: «أيها الإخوان … إذا فُتِحَت لكم السجون، وعُلِّقَت لكم أعواد المشانق فاعلموا أن دعوتكم بدأت تُثمر». ولما شعر الإنكليز وأزنابهم والصهاينة وأتباعهم بالخطر من هذه الدعوة المباركة ومن الإمام وجماعته أرادوا أن يقضوا عليه وعلى دعوته، وظنوا أنهم بقتل الإمام ستنتهي جماعة الإخوان المسلمون، وبينما كان المجاهدون من الإخوان المسلمين يضربون أروع بطولات التضحية والفداء في فلسطين، تدخل الغرب وسلطوا أحذيتهم من حكام المسلمين الخونة، وقبضوا على المجاهدين في فلسطين، واقتادوهم من ساحات الجهاد في أكناف بيت المقدس إلى زنازين الظلم وغياهب السجون، ودبروا مع عملائهم لقتل الإمام البنّا، وبينما هو خارج من»جمعية شبان المسلمين» بعد أداء صلاة العشاء وهو في أكبر شوارع القاهرة فإذا بالرصاص يمزق جسده الطاهر، ثم يصل إلى مستشفى القصر العيني وإصابته لم تكن خطيرة، ولكن الأوامر المشددة من الملك على ألا يخرج إلا جسدا ميتا، وفارق الحياة، ورزق الشهادة، وطالما كان يردد «الموت في سبيل الله أسمى أمانينا» قتل والأمة الإسلامية في أمس حاجة إلى دعوته وجهاده وحكمته، قتل وفي أمنيته زيارة أربعة آلاف قرية، قتلوه وهو يدافع عن فلسطين والمسجد الأقصى المبارك، قتل ولم يكن في حياته إلا الإسلام، استشهد الرجل القرآني ولم يصل عليه إلا والده العالم المحدث صاحب كتاب «الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد بن حَنْبَل الشيباني»، ولم يحمل جنازته إلا النساء بناته وزوجته، قتل وهو في الثالثة والأربعين من عمره، قتل ليوقع بدمه الغالي على البيع الذي بينه وبين ربه ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَابَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب:23]
رحم الله الإمام البنّا مؤسس جماعة «الإخوان المسلمون» وأسكنه الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولائك رفيقا، بنى فأحكم البناء، وربى فأحسن التربية، وضحى في سبيل «الله غايتنا» وقضى نحبه شهيدا، وترك ورائه مدرسة دعوية عميقة الجذور، ثابتة الأصول، تمضي في طريقها ثابتة الخطى رغم الشدائد والمحن، ورغم السجون والمعتقلات، وتحمل على عاتقها مسؤلية العمل للإسلام في جميع أنحاء العالم ابتغاء وجه الله تعالى، تقدم الخير وتنشد السلام وتقوم بتبليغ رسالة الإسلام للعالمين. هذا هو الإمام الشهيد حسن البنا وهذه هي مدرسة الإخوان المسلمين. رحم الله الإمام الشهيد وجعل ذلك في ميزان حسناته اللهم آمين.

Bu yazıya yorum bırakmak ister misiniz?